إن بعض التلاميذ يحاولون تبرير كسلهم بالقول إنهم أذكياء ، ولكنهم لا يتوفرون على ذاكرة قوية . ويقصدون من وراء ذلك أن التلاميذ المجتهدين ليسوا إلا أشخاصا يتوفرون على ذاكرة قوية ، إلا أنهم ليسوا أذكياء . فهل هذا الحكم يعتمد على أساس صحيح وهل هناك علاقة بين الذكاء والذاكرة ، وسنقوم في البداية بأن نوضح مدى اختلاف الذكاء عن الذاكرة ، ثم العلاقة الضرورية القائمة بينهما ، وأخيرا مدى تعاون هاتين الظاهرتين السيكولوجيتين .
يجب أن نعترف في بداية الأمر بأن هناك فرقا بين الذكاء والذاكرة . ويتجلى لنا هذا الفرق عندما نلاحظ أننا نستطيع أن نحفظ قطعا ما دون أن نفهمها ، أي دون أن نكشف عن العلاقة القائمة بين عناصرها ، وبعبارة أخرى دون أن نستخدم الذكاء . وفي بعض الأحيان قد يحدث العكس ونفهم قانون رياضيا مثلا دون أن نفهم قانونا رياضي مثلا دون أن نتمكن من حفظه وتذكره . وربما نرى أشخاصا يتوفرون على ذاكرة خارقة إلا أنهم لا يتوفرون على ذكاء مماثل ، أو نرى العكس من ذلك أن بعض الأشخاص قد يتوفرون على ذكاء ممتاز دون أن يتوفروا على ذاكرة ممتازة . والذاكرة الجيدة هي التي تساعدنا على تثبيت الخبرات بسرعة أي على التحصيل السريع ، ثم الاحتفاظ بما حصلناه أطول مدة ممكنة ، وأخيرا استرجاع ما حصلناه استرجاعا أمينا يساعدنا في التلاؤم مع الموقف الحاضر . أما الذكاء فعلى العكس من ذلك فهو اكتشاف علاقة ، ولكن بأسرع وقت ممكن ، لاستخدام هذه العلاقة في حل الموقف الراهن. والفرق بين الشخص الذكي والشخص غير الذكي هو أن الأول يصل إلى اكتشاف العلاقات بسرعة أكثر من الشخص الثاني. بالإضافة إلى ذلك أن الذكاء يختلف عن الذاكرة من حيث أنه يتسم بالجدة على عكس الذاكرة .فالشخص الذكي هو الذي يكتشف حلا جديدا للموقف الذي يواجهه تعجز الغريزة والعادة على الإتيان به . وفي الذاكرة نحن لا نأتي بجديد وإنما نسترجع أحداثا وخبرات ماضية . ورغم أن عملية الاسترجاع تفترض تحديدا للخبرات المسترجعة إلا أن هذه العملية
لا تتضمن إضافات جديدة كما هو الشأن في الذكاء. إذن هناك فرق واضح بين والذاكرة ، ولكن هل هذا الفرق هو فرق حاسم أم أن هناك علاقة ضرورية بين هاتين الظاهرتين السيكولوجيتين ؟
على الرغم من الاختلاف الموجود بين الذكاء والذاكرة فان هناك علاقات ضرورية بينهما تجعلهما يتبادلان التأثير . فإذا كان الذكاء هو اكتشاف علاقات فإن الذاكرة هي أيضا إيجاد علاقة ولكن بين موقف حاضر وخبرة ماضية . فنحن عندما نتذكر نعود من الحاضر إلى الماضي ونكشف عن علاقة بينهما ، أي أننا نستخدم الذاكرة والذكاء معا . والماضي لا يعود كله إلى الحاضر ، وإنما ما له علاقة بالحاضر ، لهذا شبه < برغسون > الذكريات بمخروط رأسه إلى الأسفل ، لكي يظهر أن الذكريات لا تتدفق دفعة واحدة إلى الحاضر. وإنما يخرج منها ماله علاقة بالحاضر أذن أن التذكر يتضمن اختيارا للخبرة التي نتذكرها من بين مجموعة كبيرة من الخبرات واختيار الخبرة يفترض ذكاء لأننا لا نختار أية خبرة كانت وإنما نختار فقط الخبرة التي لها علاقة بالموقف الراهن . ثم أن الذكاء يساعدنا على تحديد الذكريات ، فقد أتذكر أني التقيت بشخص ما ولكني لا أحدد هذا الشخص بالضبط ، وهنا نحن أمام تعرف ناقص لأننا لم نتعرف على طرفي العلاقة وإنما على طرف واحد منها . فالذكاء ، واكتشاف علاقات ، يساعدنا على اكتشاف الطرف الآخر للعلاقة ، وبالتالي يساعدنا على تحديد الذكريات . وهذا يبدوا أن هناك علاقة ضرورية بين الذكاء والذاكرة . ولكن إلى أي حد تعتمد الذاكرة على الذكاء والذاكرة ، وهذا يفترض تأثر وتأثير هاتين الظاهرتين في بعضهما البعض وكلما قام الذكاء بوظيفته كلما ساعد الذاكرة على القيام بوظيفتها . فقد أحاول حفظ درس من الدروس إلا أن عملية الحفظ تبدوا صعبة إذا كان الدرس غير مفهوم بالنسبة لي ، أي إذا لم أكشف عن علاقة منطقية بين عناصر الدرس . ولكي أحفظ الدرس بسهولة يجب أن أكشف عن العلاقة القائمة بين عناصره أو الأفكار التي يتضمنها . لذلك نجد صعوبة مثلا في حفظ مجموعة من الكلمات لا ترتبط بأية علاقة ، في حين يسهل علينا أن نحفظ وأن نتذكر مجموعة أخرى من الكلمات توجد بينها علاقة منطقية . إذن إن الذكاء يساعدنا على الاحتفاظ بالذكريات وعلى استرجاع هذه الذكريات . ولكن الذاكرة تساعد أيضا الذكاء ، فعندما أكشف عن علاقة بين موقف راهن وخبرة ماضية يجب أن أعود أولا إلى الخبرة الماضية ، أي أتذكرها ثم أكشف عن العلاقة بينها وبين الموقف الراهن . وكأنني أستخدم الذكاء في نفس الوقت الذي أستخدم فيه الذكاء في نفس الوقت الذي أستخدم فيه الذاكرة والعكس صحيح
نستنتج مما سبق أن الذاكرة ، وإن كانت تختلف عن الذكاء ، إلا أنه ترتبط معه بعلاقة ضرورية في نفس الوقت الذي تعتمد عليه ، كما أن الذكاء يرتبط بعلاقة ضرورية مع الذاكرة ويعتمد عليها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق